تمغربيت:
بقلم: وليد كبير
حقائق صادمة عن التحول العميق في فكر جمال عبد الناصر.. وكيف مهد هذا التحول لاختيار السادات واسترجاع سيناء.
بعد الهزيمة القاسية في يونيو 1967، لم يعد خطاب جمال عبد الناصر كما كان قبل النكسة.. فالرجل الذي ألهب الجماهير بشعارات القومية والوحدة والتحرير أدرك بمرارة أن الشعارات وحدها لا تحرر أرضاً.. وأن العواطف الجياشة لا تهزم الجيوش المدججة. تغير عبد الناصر.. وأصبح أكثر واقعية، أكثر احترازاً، وأشد تمسكاً بمنطق الدولة على حساب منطق الثورة الدائمة.
هذا التحول تجسد بوضوح في حديثه الصريح لمعمر القذافي، حين خاطبه قائلاً: من أراد الحرب، فليذهب إلى بغداد أو دمشق أو الجزائر.. وليحارب كما يشاء.. أما مصر، فقد قررت أن تركز على معركتها الأساسية: استعادة سيناء، وإعادة بناء قوتها الذاتية بعيداً عن مغامرات لا تحسب حساب النتائج.
صحوةعبد الناصر
كان حديث عبد الناصر في جوهره إعلان قطيعة مع نمط التفكير العاطفي الذي جر الأمة إلى نكسة كبرى، وتجسيداً لفهم عميق بأن معارك التحرير لا تدار بالخطب الحماسية.. بل بالتخطيط المدروس والإمكانيات الواقعية. ولهذا، فإن قرار عبد الناصر بالابتعاد عن حروب الوكالة والصراعات الهامشية لم يكن انكفاءً ولا استسلاماً، بل كان قمة النضج السياسي والوطني. ومن هذا المنطلق أيضاً، جاء اختياره لأنور السادات نائباً له قراراً مدروساً، لا مجرد ملء فراغ دستوري أو شكلي. فعبد الناصر، وقد خبر دروس الهزيمة، كان يبحث عن رجل يؤمن بأن استعادة الأرض تتطلب مزيجاً من القوة والعقل.. من العمل العسكري والتفاوض السياسي، من الصلابة والمرونة معاً، وقد وجد في السادات الشخصية القادرة على مواصلة هذا المسار بشجاعة ومسؤولية.
اختيار السادات لم يكن اعتباطا
لم يكن اختيار السادات عشوائياً، بل جاء نتيجة إدراك عبد الناصر أن المرحلة القادمة تحتاج قائداً يفهم أن الحفاظ على الدولة أولى من المزايدة على الشعارات، وأن التفاوض لتحقيق المكاسب لا يقل شرفاً عن القتال لاستعادة الكرامة. وقد أثبتت الأحداث صحة هذا الرهان. فبعد حرب أكتوبر 1973، نجح السادات في تحويل النصر العسكري المحدود إلى مكسب سياسي عظيم، عبر مفاوضات قادت إلى استرجاع كامل سيناء. كان ذلك الخيار امتداداً مباشراً للفكر الواقعي الذي تبناه عبد الناصر في سنواته الأخيرة، حين غلب مصلحة الشعب على حساب الاستعراضات الخطابية.
مصر لا تحتمل مغامرات جديدة
لقد علم عبد الناصر، من قلب تجربته ومن مرارة الانكسار، أن مصر لا تحتمل مغامرات جديدة، وأن دماء أبنائها أثمن من أن تُبدد في معارك عشوائية. ولهذا، حين خاطب القذافي داعياً إياه لتشكيل جبهة بعيدة عن مصر، كان يضع خطاً فاصلاً بين مصر الدولة ومصر الثورة، بين منطق البقاء ومنطق الفناء. وهكذا، لم تكن نهاية عبد الناصر ختام عهد بقدر ما كانت بداية مرحلة جديدة: مرحلة من الواقعية السياسية التي حفظت لمصر كيانها وأعادت لها أرضها وكرامتها.
تعليقات
0