تمغربيت:
بقلم ✍️ : ياسين فرحات
شاهدت مؤخرًا مقطع فيديو لأستاذ جامعي مغربي، مدعو للمشاركة في ندوة بقطر.. وليس في الأمر عجب أن يعبّر عن رأيه، فحرية التعبير مبدأ أساسي. لكن المستهجن أن يتحول موضوع غزة إلى منبر لمهاجمة المغرب والمغاربة.. لدرجة اتهام من يهتف “عاش الملك” بأنهم بلطجية أو متطرفون. وكأن حب الوطن أصبح تهمة، والانتماء لبلدك أصبح جريمة.
الأمر الأكثر إيلامًا؟ ليس النقد بحد ذاته، بل أن يأتي من أحد أبنائنا. ومن خارج الوطن. وفي وقت يقود فيه بلدنا، بصمت واتزان، معارك دبلوماسية بالغة الدقة.
الحملات الصليبية: نفس الأرض، نفس الجريمة.. لكن ردّ مختلف
في زمن الحملات الصليبية، تعرضت أرض فلسطين للاضطهاد. سنة 1099.. استولى الصليبيون على القدس، وسفكوا الدماء حتى “غاصت الخيول فيها حتى الركب”، كما تذكر بعض المصادر المسيحية نفسها.
وها هي غزة اليوم تعيش المشهد ذاته: احتلال وحشي، أعمى، لا إنساني.
لكن الفرق كان في رد المسلمين. فصلاح الدين، قبل استعادة القدس بوقت طويل.. أبرم اتفاقات مع خصومه. فعقد هدنة سنة 1175 مع ريمون الثالث أمير طرابلس، ووفقًا لابن الأثير وأبي شامة، فقد أبرم تفاهمات ظرفية حتى مع ملك القدس الصليبي، غي دي لوزينيان.
كان يعلم أن التوازن لا يتحقق بالرفض المطلق، بل بالتفاوض الحكيم.
وبعد استرجاع القدس سنة 1187، لم يمنع التواصل أو التفاهم أو التبادل. بل عقد هدنة كبيرة سنة 1192 مع ريتشارد قلب الأسد، عرفت بصلح الرملة.. منح فيها الصليبيين السيطرة على جزء من الساحل الفلسطيني، من يافا إلى صور، بينما ظلت القدس تحت السيادة الإسلامية.
لم يكن ذلك ضعفًا. بل كان واقعية. وبعد نظر. واستراتيجية. وكان صلاح الدين يدرك أن السلام يُبنى أحيانًا في ثنايا الحرب.
التجارة زمن الحرب: واقع منسي
خلافًا لما يتصوره بعض المعاصرين تصورًا ساذجًا.. لم توقف الحملات الصليبية التبادل التجاري بين المسلمين والمسيحيين. فقد ذكر المؤرخ الكبير ابن خلدون أن موانئ المشرق، خاصة عكا وصور وطرابلس والإسكندرية، ظلت مراكز تجارية نشطة، حتى في أشد فترات النزاع.
وكان التجار الإيطاليون — من جنوة والبندقية وبيزا — يتعاملون مع الدول الإسلامية.. غالبًا بإذن من الحكام من كلا الطرفين. كما وصف المؤرخ المقريزي حيوية التبادل، خاصة في السلع الفاخرة، كالتوابل والمنسوجات والأسلحة أحيانًا… بل وحتى في تبادل الأسرى ضمن اتفاقات سرية.
لقد كانت التجارة بين الممالك المسيحية والمسلمة في الشرق مجال تفاعل، لا خيانة. وهذه الحقيقة التاريخية تدحض الاعتقاد بأن أي علاقة مع العدو تعتبر خزيًا.
فالعلاقة الذكية ليست تنازلًا، بل فن التأثير، والاحتواء، والتفاوض.
المغرب وثبات البوصلة
حين وقّع المغرب اتفاقًا مع إسرائيل، فهو لم يعترف بها أكثر مما اعترف صلاح الدين بملكية الصليبيين على بيت المقدس. لم يخن المغرب فلسطين، ولم يتخل عن مبادئه. بل جدد التزامه، مرة تلو أخرى، بدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية. ولا يزال يترأس لجنة القدس. ويتحرك. بصمت، لكن بثبات. ويفعل ذلك ليس بدافع العاطفة، بل برؤية استراتيجية للعالم.و لا يدير ظهره للتاريخ. بل يكتب فيه سطرًا جديدًا.
الملك المغربي، بهذه المناورة الدبلوماسية، أقرب إلى روح صلاح الدين من أولئك الذين يرفعون اليوم شعارات الجهاد، جهلًا أو طمعًا في سلطة، أو رغبة في تصفية حسابات مع النظام الملكي. حين يطلق البعض النار على وطنهم
ما يُؤسف له اليوم، ليس أن ينتقد مغربي بلده. بل أن يفعل ذلك من خارج الوطن، أمام جمهور أجنبي، في لحظة دقيقة، وباسم قضية تستحق ما هو أنبل. فغزة تستحق أصواتًا مخلصة، لا تصفية حسابات. وفلسطين لا تحتاج إلى خطباء يبحثون عن صدى إعلامي، بل إلى حلفاء أقوياء، ودول مستقرة، ودبلوماسية ذات مصداقية. وقبل كل شيء، تستحق أن لا يدوس المدافعون عنها على جذورهم هم.
الخاتمة: الوفاء في ظل التوازن
لم يخسر صلاح الدين القدس لأنه صافح خصومه. بل ربحها، لأنه كان يعرف متى يضرب، ومتى يفاوض. والمغرب، على هذا النهج، يسير بحكمة. لا يبيع شيئًا. لا يتنازل عن شيء. بل يمضي بثبات وذكاء. أن تحب فلسطين، فذاك أن تريد حريتها. لكن أن تحب المغرب، فذلك أن تحميه من الإهانة.
ولمن يخلطون بين المعارضة واللاوفاء، نقول: العظمة ليست في الصراخ. بل في الوفاء. والوفاء الحقيقي، هو ألا تُضحّي بوطنك أبدًا.
وعاش المغرب، عاش الملك.
تعليقات
0