تمغربيت:
وفاء لروح الحسن الثاني رحمه الله، نواصل سرد مذكراته والتي دونها في كتابه “ذاكرة ملك”.. وهو عبارة عن حوار أجراه طيب الله ثراه مع الصحفي الفرنسي إيريك لوران..
سؤال : ما هي أول ذكرى لديكم عندما كنتم شابا يافعا في ميدان السياسة الخارجية؟
جواب : بدون شك لقاء أنفا سنة 1943، كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكان اليوم يوم جمعة بعد الزوال من شهر فبراير (شباط). كنت في حجرة الدراسة حين جاء والدي فجأة للمعهد المولوي، وأعطاني مهلة عشر دقائق لأتهيأ وقال : “ارتد لباسك الرسمي. أي جلبابك ، لأننا نتوجه لتدشين مدرسة في الدار البيضاء”. استغرب المدير والناظر والحارس العام هذه السرعة غير المعتادة. فقد جرت العادة أن يكون تاريخ حدث مثل هذا معروفا من قبل.. وخاضعا لمراسم مضبوطة ودقيقة. أما في هذه المرة فلم يحدث شيء من هذا القبيل.
وهكذا سافرنا نحن الثلاثة والدي وأنا وسائقه التولوزي (نسبة الى مدينة تولوز الفرنسية) واسمه مارتي. ومارتي هذا مكث طويلا في خدمتنا حيث قاد سيارات جدي وأبي وسيارتي.. وساق السيارة التي حملت ابني البكر عند ولادته. فعندما ازداد ابني البكر قال لي مارتي : “صاحب الجلالة ، لم أعد أقدر على السياقة، ولكنني اليوم أود أن أقود السيارة التي ستحمل الأمير الوليد من المصحة إلى إقامتكم لأكون بذلك سائقا للجيل الرابع”. وبالفعل ظل إلى آخر حياته مديرا لمصلحة السيارات بالقصر الملكي.
نعود إلى رحلتنا، فعندما وصلنا إلى قصر الدار البيضاء أخذ والدي ما كان قد اقتناه ليقدمه هدايا لضيوفه. وتوجهنا إلى حيث تركني في «الفيلا » التي يقضي بها الصدر الأعظم عطلة الصيف، وهناك وجدت نفسي أنتظر مع الجنرال نوكيس.. وطيلة المدة التي استغرقتها الرحلة لم يكشف لي والدي عن شيء، ولما عاد انتظرنا ساعة ثم ساعة ونصف الساعة، وأخيراً رن جرس الهاتف . فتوجهنا في سرية تامة إلى «فيلا » أخرى. وكان الليل قد أرخى سدوله .
عند وصولنا لاحظت في إحدى القاعات الفسيحة وجود طاولة كبيرة.. جلس إليها رجلان طاعنان في السن. سلما بحرارة على والدي عند دخوله وبسرعة تعرفت عليهما . فقد سبق أن رأيت مرارا صورتيهما . وأخذني العجب : إنني سأتناول العشاء مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فرنكلين روزفيلت، والوزير الأول البريطاني ونستون تشرشيل .
كان أمر هذا العشاء غريبا، وكان روز فيلت ينعش الحديث بمرحه، ويلقي أسئلة على والدي، ثم يعود ليستفسر مساعديه “مورفي” و “أفيريل هاريمان” عن جزئية ما. وكنت أنظر اليه منبهرا. كان ينبعث منه شيء إيجابي للغاية. لقد بدا لي كعم مثالي سيهديني قطعة من الحلوى أو آخر مبتكرات الأقلام واللعب، أما تشرشل ، علما بأنني كنت أكن له كل التقدير، فقد بدا لي على العكس من روزفيلت منغلقا وهو يعض على سيجاره، وكان قليل المشاركة في المذاكرة. لقد علمت فيما بعد سبب انزعاجه. لقد كان روزفيلت في معرض حديثه مع والدي من قبل قد قال له : «صاحب الجلالة، نظرا للمجهود الذي بذله المغرب، كبلد محمي دفاعا عن قضية السلام.. اسمحوا لي أن أؤكد لكم أن المغرب سيكون مستقلا بعد مضي عشر سنوات”. إن أجل عشر سنوات هذا ولا ريب أمر غريب، حيث أننا نستطيع اعتبار سنة 1953 سنة ممهدة لعهد استقلال المغرب.. ولم يرتح تشرشل لهذا الوعد لأنه اعتبره بمثابة ناقوس خطر بالنسبة للقوة الاستعمارية البريطانية. لقد أدرك الوزير الأول البريطاني أن مثل هذه الأمور كمثل جوارب النيلون، متى نزعت منها خيطا تتبعه بقية الخيوط .
إن هذا الاجتماع الذي عقد في سرية تامة كاد يتعرض لنهاية مفجعة، لأن خبره بلغ الألمان. ولكن لحسن الحظ جاء في الشفرة المبرق بها إلى برلين تسمية الدار البيضاء بـ “البيت الأبيض” اعتمادا على ترجمة حرفية (وايت هاوس عوض كازابلانكا ) من الإسبانية إلى الانجليزية، فظنت القيادة العليا الألمانية أن لقاء روز فيلت بتشرشل تم بواشنطن. وبعد ذلك تقابلت مع تشرشل عدة مرات وأنا ولي للعهد . وكان قد أصبح رجلا عاجزا لا يبارح مسكنه. ومع ذلك ففي كل مقابلة كنت أجده بلباسه الأنيق (الجاكيت والسروال المخطط) وكان في كل مرة يحرص على مرافقتي حتى الباب لتوديعي. كان يتكلم بلسان فرنسي مع لكنة «تشرشيلية » محاولا تنميق هذه اللغة مما ينم عن قدر من الدلال.
تعليقات
0