جوابا على السيد بنكيران.. و ماذا لو انتصرت ايران انتصارا ساحقا؟‎

الخميس 19 يونيو 2025 - 18:36

تمغربيت:

بقلم الأستاذ ياسين فرحات

ليس من عادة رجال الدولة أن يتحدثوا بهذه الخفة. رجل الدولة الحقيقي لا يطلق موقفًا حاسمًا في قضية مصيرية دون أن يتأمل أثر كلمته بعد سنوات، وربما عقود. رجل الدولة حين يتكلم، يفكر لا فقط في من سيسمعه اليوم، بل في من سيقرأه غدًا، وفي ما ستقوله عنه كتب التاريخ بعد رحيله.

لهذا فإن تصريح السيد عبد الإله بنكيران بدعمه الصريح لإيران في حربها الحالية ضد إسرائيل لا يمكن اعتباره مجرد موقف عاطفي عابر.. بل هو إعلان ولاء خطير، يتجاوز حدود السياسة الظرفية، ليمس جوهر الأخلاق والرؤية والمسؤولية.

دعونا نُسلِّم جدلًا، ونساير ما يتمناه السيد بنكيران نفسه و أمثاله من الإخوان و أتباع الجماعة: أن إيران، بالتحالف مع حماس، تنجح في دحر إسرائيل بالكامل، وطردها من فلسطين، واستعادة القدس الشريف تحت راية “النصر”. يبدو الأمر بطوليًا من بعيد. ولكن ما إن نقترب، ونسأل السؤال البسيط: “وماذا بعد؟”، حتى تبدأ الحقيقة بالتكشّف في وجهها الأكثر تعقيدًا.

من سيحكم القدس؟ من سيرفع علمه فوق الأقصى؟ من سيخطب الجمعة؟ هل سيكون الإمام من غزة، أم من طهران؟ أم من قم؟ هل ستُقسّم ساحات المسجد الأقصى كما قُسمت بغداد؟ هل سنرى حسينيّات في أزقة القدس القديمة؟ هل سيرتفع فوق المسجد الأقصى شعار “يا حسين”.. إلى جانب رايات لا علاقة لها لا بفلسطين، ولا بعروبة القدس، ولا بعمقها التاريخي السنيّ؟ أي مستقبل نرسمه للقدس حين نفتح لها أبواب وصاية مذهبية باسم “التحرير”؟

سؤال يحتاج إلى جواب

ما يغيب عن ذهن الكثيرين، أو يتغافلون عنه عمدًا، أن النصر لا يعني نهاية الاحتلال فقط، بل بداية سؤال الحكم والشرعية والسيادة. وأن تجربة إيران ليست تجربة تحرير، بل تجربة وصاية وهيمنة وطائفية مقيتة.

ففي لبنان، دخلت إيران باسم المقاومة، وانتهى بها الأمر تسيطر على القرار، وتعطّل الدولة.. وتضع السلاح فوق السياسة، والميليشيا فوق الجيش. وفي العراق، دخلت عبر شعارات المظلومية والولاء، فمزّقت النسيج الوطني، وأقامت نظامًا هجينًا، لا هو دولة ولا هو مقاومة.

وفي سوريا، دعمت بشار الأسد، لا لتحرير فلسطين، بل لإبادة شعبه، وتثبيت نظام استبدادي دموي. وفي اليمن، أطلقت ميليشياتها لتقضم دولةً كانت بالكاد تقف، لا لتقفز إلى القدس، بل لتخنق صنعاء. ثم يأتي من يزعم أن إيران مشروع “مقاومة”. فأين هذه المقاومة؟ أين القدس من قاسم سليماني؟ أين الأقصى من صعدة، من القصير، من الموصل؟ المقاومة لا تقاس بشعارات تُقال، بل بأخلاق تُمارس، وبرؤية تتجاوز لحظة الخطابة نحو عمق الفعل الوطني والإنساني.

الواقع الفلسطيني.. واقع التقسيم وشعارات الوحدة

ثم، ألا يكفينا ما نراه في فلسطين نفسها؟ أكثر من عشرة فصائل، لا يتفقون على رجلٍ واحد، ولا راية واحدة. حكومتان متنازعتان، واحدة في الضفة، وأخرى في غزة. وكلٌّ يدّعي “الشرعية”، بينما القدس نفسها ما زالت تنتظر من يوحّدها قبل من يحرّرها. فكيف سيكون المشهد إذا دخلت إيران، بمذهبها، وأذرعها، وأموالها، وخطبها المستوردة؟ هل سيتوحّد الفلسطينيون تحت “ولاية الفقيه”؟ أم سيزداد الانقسام عمقًا وتعقيدًا يتبعه التناحر و الاقتتال؟

اليوم في القدس، رغم الاحتلال، ورغم القهر، لا يُمنع المسلمون من الصلاة في المسجد الأقصى، ولا تُفتّش عقائدهم، ولا يُفرض عليهم مذهب معين.. ولا تُعلّق فوق رؤوسهم صور مرشدٍ أو وليّ. فهل نطمح إلى واقع يُستبدل فيه الاحتلال العسكري باحتلال عقائدي و دموي يقمع و يكفر كل من لا يؤمن بولاية الفقيه؟ وهل نحرّر القدس من قيدٍ لنضعها في قيدٍ أشدّ منه؟ وهل نُسلم مفاتيح الأقصى لأيدٍ لم تحترم في أوطانها حرمة المسجد، ولا كرامة الإنسان؟

لقد آن لنا أن نقولها بوضوح، وبلا تردد: في هذا القرن، لم نكن نستحق فلسطين. لم نكن نملك لا وحدة، ولا مشروعًا وطنيًا، ولا قيادة ناضجة، ولا حتى اتفاقًا على معنى المقاومة. ولذلك، كان من الطبيعي أن تتحوّل القضية من قضية شعب، إلى ورقة في يد القوى العظمى. ومن مشروع تحرير، إلى مسرح لصراعات مذهبية ودينية وسياسية، تُدار من خارج فلسطين أكثر مما تُقاد من داخلها.

مع الأسف، نحن أمة لا تقرأ، و لا تنتج. نعم: الناتج الخام لكل الدول العربية لا يتعدى مجموع الناتج الخام لثلاثة مدن غربية (نيو يورك + لندن + باريس). شيء صادم سيد بنكيران ان تكتشف ان الدول العربية لا تساوي الكثير اقتصاديا. أما عسكريا و علميا، فالأمر واضح. و تحلم بتحرير الأقصى.

ضد إسرائيل لا يعني أن نكون مع إيران

أن تكون ضد إسرائيل، لا يعني أن تصطف مع إيران. فالعدو ليس فقط من يحتل أرضك، بل من يُفسد وعيك، ويشتّت صفك، ويجعل من كل قضيّة عادلة ذريعة لتمديد نفوذه. إيران ليست بديلاً عن إسرائيل، بل مشروع آخر للاستحواذ، بصيغة دينية بدل أن تكون صهيونية، لكنها لا تقلّ عنها خطرًا، لأنها تُخفي مشروعها تحت غطاء مقاومة مزعومة.. وتحت رايات يُرفع فيها اسم القدس، ولا تُرى فيها القدس أبدًا. القدس لا تنتظر من يُزايد بها، ولا من يستثمر فيها. إنها تنتظر قيادة ترى أبعد من الميكروفون، وأعمق من لحظة التصفيق. قيادة لا تفرّط في سيادتها، ولا تسلّم مستقبلها لأية عاصمة، لا غربية ولا شرقية. قيادة تُدرك أن تحرير الأرض لا يساوي شيئًا إن تلاه ضياع الإنسان، وأن النصر الحقيقي ليس في استبدال مستعمرٍ بمُرشد معمم.. بل في بناء وطن يبدء ببناء الإنسان، انسان يليق بفلسطين… ويليق بالقدس. و هذا ما كان ينبغي لك، سيد بنكيران، ان تفكر فيه كرجل دولة، ان كان ذلك ما تدعيه أو ما تتمناه مستقبلا. لكن هيهات.

تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على Google News تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الجمعة 11 يوليو 2025 - 00:25

بريطانيا تحسم موقفها: لا مفاوضات حول الصحراء إلا مع المغرب كدولة ذات سيادة

الخميس 10 يوليو 2025 - 19:30

المغرب أولا.. غزة في قلوبنا والمغرب في عروقنا

الأربعاء 2 يوليو 2025 - 00:53

مالي تعلن مقتل القيادي الجزائري “أبو دحداح” وتضرب خلايا داعش في الساحل

الإثنين 30 يونيو 2025 - 01:40

بنكيران يفتخر بدعمه لإيران ويثير الغضب الشعبي: مواقف متذبذبة تهدد الثقة في قيادته