تمغربيت:
بقلم الأستاذ ياسين فرحات
يا من يصفقون لحماس و يهتفون بقادتها،
لماذا تضعون أنفسكم مكان أهل غزة؟
لماذا تحكمون باسمهم على حماس، وتمنحونها صكوك البطولة والمجد، وكأنكم أنتم من دُكّت بيوتكم، أو فقدتم أبناءكم تحت الركام؟ من قال لكم إنّ أهل غزة راضون عن حماس؟.. ومن منحكم الحق في أن تهتفوا للقادة الذين يختبئون، بينما الشعب يُذبح؟ إن من يعيش تحت القصف.. ثم من فقد بيته وطفله وكرامته، هو وحده من يملك الكلمة في حقّ هذه الحركة. لا من يشاهد عن بُعد، ولا من يكتفي بالشعارات. واليوم، آن الأوان أن نكشف الحقيقة، بلا انفعال ولا مجاملة.
الأخطاء والانحرافات
سأسرد أمامكم ـ بأمانة وتجرد ـ سلسلة الأخطاء والانحرافات الكبرى التي وقعت فيها حماس، منذ نشأتها في أحضان الانقسام، مروراً بتحالفاتها المشبوهة.. وتسلّطها على غزة بلا شرعية، وصولاً إلى كارثة السابع من أكتوبر التي تركت الشعب يواجه الموت وحده.
منذ ولادته، حمل مشروع “حماس” بذور فشله. فقد نشأ هذا الكيان على أنقاض الوحدة الوطنية الفلسطينية.. حين كان هناك إطار جامع ـ منظمة التحرير الفلسطينية ـ يمثّل مختلف أطياف الشعب في مشروع تحرّري متكامل. لكن حماس اختارت التفرّق على حساب الوحدة، والازدواجية على حساب الوضوح، فشقّت الصفّ الفلسطيني وفتحت الباب لنزيف داخلي لم يندمل حتى اليوم.
من يدّعون أنّ هذا الانقسام كان مبرَّراً بذريعة “إضفاء روح دينية على المقاومة” إنما يضلّلون التاريخ، ويكذبون على الدين. فهل كان النبي الكريم ﷺ ـ وهو الذي عانى وأصحابه من بطش قريش لثلاثة عشر عاماً بين تقتيل و تعذيب و تهجيرـ قد أمر يوماً بعملية انتحارية؟ أو بارتهان الأبرياء في الأسواق والطرقات؟ كلا. لم يُنقل عن السيرة النبوية ولا عن الخلفاء الراشدين فعلٌ واحد يبيح قتل المدنيين باسم المقاومة. لكن حماس، منذ أيامها الأولى، ألبست الإرهاب لباس الجهاد، وأدخلت الأطفال إلى ساحات الموت وهم في ربيع أعمارهم، فلوّثت عدالة القضية بدم بريء وسلوك مدان شرعاً وعقلاً.
حماس والانفصال
ثمّ إنّ هذه الحركة، وبعد سيطرتها على قطاع غزة في مطلع الألفية، سلكت طريق الاستئثار، وأغلقت أبواب الشرعية. لم تُجرِ انتخابات، ولم تجدّد عهداً، ولم تُشرك الشعب في قرار، رغم أنّه مصدر الشرعية الوحيد. ظلت الوجوه ذاتها، والشعارات ذاتها، واللغة ذاتها، وكأنّ الزمن توقف عند لحظة الانقلاب.
و ما يعمق المأساة، أنّ القرارات المصيرية، من دخول الحروب إلى عقد التحالفات، اتُّخذت بعيداً عن الشعب الذي يدفع الثمن. من هم هؤلاء القادة؟ ما هي خلفياتهم؟ هل هم استراتيجيون؟ مفكرون؟ رجال دولة؟ بعضهم قضى شبابه في السجون، وحين خرج منها، تسلّم القيادة لا لمؤهلاته، بل لأمجاده الشعاراتية. لم يعرف الناس منه برنامجاً، ولا رؤية، ولا مشروعاً وطنياً شاملاً، بل فقط أناشيد قتالية وبيانات نارية.
وما يزيد الجرح عمقاً، هو أنّ هذه الجماعة لم تكتفِ بالخطأ الداخلي، بل انزلقت إلى تحالفات مريبة. فقد أعلنت دعمها لنظام بشار الأسد، وامتدحت طهران، ورفعت صورهما في شوارع غزة، بل وظهرت صور قاسم سليماني ـ قائد الميليشيات العابرة للحدود ـ مرفوعة في أماكن عامة. كيف لحركة تزعم الدفاع عن المظلوم أن تحتفي بمن قتل الأطفال في حلب، وأباد الأسر في حمص، وسحق المتظاهرين و قتل النساء في طهران؟
وحين تجرّأ أحد علماء الدين في غزة سنة 2021، الشيخ مجدي المغربي (فيديو مشهور على يو توب)، على إنزال صورة قاسم سليماني من الشارع.. تم استدعاؤه والتحقيق معه وإهانته، وكأنّه ارتكب جريمة. من هنا يتضح أن “حماس” لا تتحمّل مجرد رأي مخالف، وأنّها أصبحت أقرب إلى الأنظمة البوليسية منها إلى الحركات التحررية.
وإلى جانب الانحراف السياسي، تأتي الكارثة العسكرية. كثيرون يبرّرون لحماس تحالفها مع إيران بأنّها “دعمتها بالسلاح”، لكن الحقيقة أنّ هذا السلاح كان نقمة لا نعمة. لم يغيّر ميزان القوى. لم يحقّق ردعاً. لم يحرّر شبراً. بل كان الذريعة المثالية لإسرائيل لتشديد الحصار، وقصف الأحياء، وتبرير جرائمها أمام العالم.
ثم عن أيّ سلاح نتحدّث؟ صواريخ بدائية تسقط معظمها القبة الحديدية، والبقية تسقط في مناطق فارغة. لم تصنع نصراً، ولم تفرض معادلة. الأسوأ من ذلك، أنّ هذه الصواريخ ـ رغم ضآلتها ـ أصبحت ذريعة لتجويع الناس، وخنقهم، ومنع عنهم حتى المساعدات الإنسانية. فهل هذه “المقاومة” تستحق ثمنها؟ أم أنّها، في حقيقتها، عبء ثقيل على كتف شعب أعزل؟
لماذا لم يفكّر هؤلاء في خيار آخر؟ لماذا لم يقرأوا تاريخ غاندي؟ لقد حرّر الهند من أعظم إمبراطورية بالعالم، دون رصاصة، دون كمين، دون تفجير. فقط بالإرادة، بالعقل، بالتنظيم، وبالقوة الأخلاقية. أما نحن، فنتحدّى إسرائيل والولايات المتحدة بـ”صواريخ لعب أطفال”، ونتوقّع “تحريراً قريباً”. هذه ليست مقاومة. هذه أوهام مدمّرة. إمّا سذاجة قاتلة، وإما خداع متعمَّد.
ثمّ جاءت الفضيحة الكبرى يوم 7 أكتوبر. لم يكن الشعب في غزة على علم بما سيجري. ولم يستعد. ولم يتحصّن. وحدهم قادة “حماس” علموا، واختبأوا في الأنفاق. ومنهم من هرب قبل المعركة بسنوات إلى فنادق الدوحة وأنقرة والقاهرة. لماذا لم يكونوا مع شعبهم؟ غزة ليست محتلة. لا يوجد بها جنود إسرائيليون. لماذا لم يسكنوا بين أبناء قضيتهم؟
وحين وقعت الكارثة، كان الشعب وحده. يُقصف، يُمزّق، يُحاصر. والمقاومة؟ أين هي؟ كيف تقاوم امرأة تبحث عن دواء لطفلها؟ كيف يقاوم رجل لم يعد يملك بيتاً أو طعاماً؟ لقد استُخدموا كدروع، وذُبحوا تحت مسمى “الثبات”.
فتاوي قادة الفنادق
ومع ذلك، يخرج علينا قادة من فنادق الخليج، ليُعلنوا “الانتصار” ويطلبوا “الصبر” و”المقاومة”. عن أي مقاومة يتحدّثون؟ لقد قُتل الآلاف في الأيام الأولى، دون أن يُقاتلوا أصلاً. لم تكن معركة، بل مجزرة. والمجزرة ليست مقاومة. إنها خيانة إذا زُيّنت بالكلمات.
ثم يكذبون. نعم، يكذبون. يقولون للشعب إنّ “العدو في مأزق”، وإنّ “الانتصار قادم”، بينما الأمهات يدفنّ أبناءهنّ، والجثث في الأزقة، والمستشفيات خارج الخدمة. كذبٌ مكشوف، وخداع مفضوح. هؤلاء لا يستحقّون لقب قيادة. بل لا يستحقّون أن يتحدّثوا باسم شعب لم يُشاوروه، ولم يحموه، ولم يُخلصوا له.
أما المقاتلون على الأرض، فكثيرٌ منهم ضحية، لا جلاّد. صدّقوا وعوداً، وضحّوا بصدق، وساروا نحو الموت على أمل النصر. لكنهم خُدعوا. وأُرسلوا إلى الهلاك بسذاجة أو بقصد خبيث. ومن ظلمهم ليس العدو، بل من ادّعى أنّه قائدهم.
وإلى الذين يرفعون صور هؤلاء في العواصم العربية والإسلامية، نقول: اسألوا أوّلاً أهل غزة، لا تهينوا شهداءهم بتصفيقكم لمن دمّرهم. لا تحوّلوا قاتلهم إلى رمز.
هنا يبدأ الطريق الحقيقي للتحرّر. لا من الاحتلال وحده، بل من الكذب. من الشعارات الجوفاء. من القيادة الزائفة. من العبث الدموي. القضية الفلسطينية لا تحتاج مزيداً من القبور، بل من البصيرة. لا تحتاج تجديد الحصار، بل تجديد الفكرة. تحتاج قيادة جديدة، نزيهة، متعلّمة، متجذّرة في الواقع، تُعيد الكلمة إلى الشعب، والقرار إلى العقل، والأمل إلى الأفق.
وإنّ أول الوفاء لفلسطين، أن نرفض خيانة من يتاجر باسمها. وأن نُنصت لصوت الحقيقة وسط ضجيج الموت. عندها فقط، تبدأ المقاومة.
تعليقات
0