التطبيع من السلام إلى أسواق المصالح

الخميس 23 أكتوبر 2025 - 16:04

تمغربيت:

بقلم ماجدة لعمش

القارئ لن يكفّ عن السؤال ، والكاتب يحاول اقتناء الأجوبة خصوصًا إن كانت شاردة وشائكة.
وفي هذه الورقة البحثية لن يكون الكلام عاطفيًا أو متحيزًا، وإنما سيكون التحليل موضوعيًا وفق نسق تاريخي ومعطيات سياسية.
ومحور موضوعنا سيكون عن التطبيع الذي ظهر للوجود منذ سبعينيات القرن الماضي، بوصفه ظاهرة دبلوماسية وآلية سياسية في منظومة العلاقات الدولية ،  طغى معها جدل سياسي وثقافي في العالم العربي آنذاك وإلى اليوم.
وما أورده القاموس اللغوي لا يعنينا ، لكن ما أنبته الزمن السياسي هو الذي سنحاول الوقوف عنده للقبض على المعنى الدقيق للمفهوم، واستقراء محطاته التاريخية، واستجلاء تحولاته وأشكاله المحلية ، كالنموذج المغربي الاستثنائي.

على ضوء مخرجات النظام الدولي بعد الحرب الباردة، ساهمت بشكل مباشر في تهيئة السياق للتطبيع العربي مع إسرائيل، إذ فرضت أجندة سياسية جديدة جعلت من السلام خيارًا استراتيجيًا التزمت به الدول الساعية للاندماج في النظام الدولي، في ظل العولمة وتشكيل اقتصادات قوية تريد إثبات ذاتها بالسوق العالمي.

فهل هناك حقًا سلام بعد حرب؟
نعم :  وهذا هو جوهر التطبيع وقيامه من الأساس؛ جعل العلاقات طبيعية بعد فترة من التوتر أو القطيعة أو الحرب، وفي أدبيات الدبلوماسية والقانون يُنظر إليه كقرار سيادي للدول ببدء علاقات أو استئنافها في شتى الميادين مع دول أخرى كانت في زمن مضى في حالة قطيعة أو حرب، أو علاقات سطحية تأرجحت بين الاستقرار والتوتر.
من زاوية القانون الدولي، لا توجد قاعدة قانونية تلزم دولة بالتطبيع أو عدمه، فالقرار هو قرار سيادي مرتبط بالتزامات بمعنى فعل سياسي تقوم به الدولة يتضمن ثلاثة عناصر: السيادة، التعاقد، الالتزام.
وبالتالي فنحن هنا أمام الآثار القانونية وآليات التطبيع (كتوقيع معاهدات، تبادل السفراء، اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف).

لقد كانت أولى نماذج هذا التطبيع على أساس مفهوم السلام بعد الحرب؛ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل سنة 1978 كأول اختراق في جدار المقاطعة العربية الإسرائيلية، وقد أخذ هذا النموذج طابعًا خاصًا حيث ارتبط بقبول وجود إسرائيل كدولة طبيعية لأول مرة في التاريخ، والتعامل معها بعد صراع تجلى في سلسلة من الحروب والنزاعات العسكرية والسياسية منذ 1948.

هذه الاتفاقية في حد ذاتها شكلت نقطة تحول من المواجهة العسكرية إلى خيار التفاوض، فمهدت الطريق أمام اتفاقيات سلام أخرى  مثال على ذلك  : اتفاقية أوسلو التي وقعت بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل سنة 1993، رأى فيها الجانب الغربي فرصة وأداة لإدارة الصراع العربي–الإسرائيلي، بينما المنتظم العربي جنح إلى رفض جزئي مستتر أحيانًا وتقبّل ظاهر أحيانًا أخرى، لكنها بدت محاولة مبدئية نحو فك خيوط الأزمة ، بعد مخاض عسير من المفاوضات لبداية تقبل واقع سياسي جديد في مجال العلاقات الدولية إسمه ” التطبيع ”   وضرورته كمرحلة فرضت نفسها ، توالت معها شجاعة الفعل السياسي وهو ما أقدمت عليه دولة الأردن عبر اتفاقية وادي عربة سنة 1994، ثم لاحقًا شهدت الساحة اتفاقيات فردية وأخرى جماعية.

ومع حلول سنة 2020 برز ما عُرف بـ «اتفاقيات أبراهام” التي شملت دولًا عربية منها: (الإمارات، البحرين، السودان وأخيرًا المغرب) ما شكّل تحولًا استراتيجيًا جديدًا في المنطقة قائمًا على إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية.

لا بد أن نشير داخل هذا الحقل الزمني الهام أن فكرة التطبيع مع إسرائيل ضربت بعرض الحائط فكرة القومية العربية آنذاك ، باعتبارها مشروعًا فكريًا سياسيًا يتجاوز الحدود السيادية للدول  ، تحت مسمى مبدأ الكل وتوحيد العرب على أساس اللغة والتاريخ والمصير المشترك ومناهضة الاستيطان الإسرائيلي ،  إلى تغير في الأولويات الداخلية ؛ حيث أصبحت نفس هذه الدول تركز على الاستقرار الداخلي والتنمية الاقتصادية أكثر من القضايا الإقليمية كقضية فلسطين ، مما عجل بضرورة المفاوضات والذهاب إلى حالة السلم وما ترتب عنها من إحياء للعلاقات الثنائية ، وبناء آفاق سياسية استراتيجية واقتصادية وأمنية، تواكب النظام العالمي الجديد وبالموازاة مع أحداثه (كالحادي عشر من سبتمبر، وخطر المد الشيعي وتشكلاته داخل المنطقة، إلى الربيع العربي ثم مشروع الشرق الأوسط الجديد).

هكذا سياقات سياسية ومقاربات اقتصادية، وبروز قوى عسكرية وظواهر اجتماعية ، انتقلنا من مفهوم التطبيع القائم على أساس السلم بعد الحرب كنتيجة ، إلى مفهوم التطبيع كوسيلة وآلية خارج إطار الحرب.
تمثلاته القانونية لا تخرج عن الإطار القانوني المنظم للعلاقات الدولية (كفتح علاقات دبلوماسية تتيح توقيع معاهدات ثنائية، تبادل سفراء، اتفاقيات اقتصادية وأمنية)، وقد يترتب عليه التزامات جديدة تجاه أطراف ثالثة (مثل اتفاقيات دفاع أو تعاون استخباراتي).
في حالات معينة قد تصاحب التطبيع اعترافات أو مواقف دولية متعلقة بنزاعات إقليمية.

من زاوية أخرى ما يعزز هذا التحول ما حدث في المشرق العربي مثلًا؛ فلطالما كان أرضًا خصبة لمجموعة من الأحداث ومرتعا للتفاعلات، وذلك بحكم موقعه الجغرافي الاستراتيجي وتشابك قضاياه التاريخية.
ومن بين أبرز هذه التفاعلات مسألة التطبيع مع إسرائيل، التي أخذت في هذه المنطقة مسارات خاصة ارتبطت بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية.
غير أنّ هذا السياق يختلف نسبيًا عن مسارات التطبيع في مناطق أخرى من الشرق الأوسط أو في شمال إفريقيا حيث برزت اعتبارات مختلفة.

وهنا ننتقل للحديث عن النموذج المغربي كأحد أبرز هذه الاعتبارات، حيث ارتبط قرار التطبيع فيه ارتباطًا وثيقًا بقضية الصحراء  الغربية المغربية.
ويعد المغرب تحديدًا وبشكل عام حالة استثنائية كدولة، ليس كباقي الدول؛ فوفق المحللين السياسيين وكبار المنظرين لمفهوم الدولة والسلطة والقانون في العصر الحديث، اعتبروا المغرب نموذجًا متميزًا فريدًا يكاد يكون الوحيد في طبيعته وجوهره، جمع بين المقاربة التشاركية لمختلف المؤسسات ما جعل طرحه الخارجي دقيقًا يقوم على ضرورة احترام القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

فنظام الحكم فيه هو ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية، تستمد شرعيتها التاريخية والدينية والشعبية من الارتباط العميق بين العرش والشعب، ومن المرجعية الدينية لإمارة المؤمنين، كما تستند إلى المشروعية الدستورية والقانونية التي يضمنها دستور 2011.
ويقوم هذا النظام على تكامل بين المؤسسة الملكية والشعب والدين مع تكريس مبدأ فصل السلط، واعتماد الحكامة الجيدة وربط المسؤولية .

ومثلما شهد المغرب تميزًا في نظامه الداخلي  شملت سياسته الخارجية  أيضا نجاحًا بارزًا، تبنّى فيها نهجًا دبلوماسيًا متوازنًا اتسم بالنجاعة  والاعتدال، بعيدًا عن منطق العداء مرتكزًا على تعزيز التعاون والتوافق مع مختلف الفاعلين الدوليين .
من بين هؤلاء علاقته باليهود فالطائفة اليهودية تاريخيًا عاشت في المغرب لأزيد من ألفي سنة ، تميز تواجدهم بالحماية من طرف السلاطين قبل وبعد الاستعمار، وكذا الاندماج الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي والولاء للعرش، الشيء الذي شكّل جسرًا متينًا على مر الزمن في استقرار العلاقات بينهما حتى قيام دولة إسرائيل، مما جعل التجربة المغربية مختلفة عن دول عربية أخرى بل ومهد إلى التطبيع على نحو سلس.

لكن كما أسلفنا الذكر، أن المغرب في إطار العلاقات الدولية لم تكن تحركاته عبثية ، بل اتسم بخطوات ثابتة استراتيجية تكتيكية لضمان تفوقه في شتى الميادين، كانت فيه ثوابته الوطنية والوحدوية العنوان الرئيس.
لهذا قام المغرب بإعلان التطبيع مع إسرائيل في ديسمبر 2020 ضمن اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية مقابل الاعتراف بالسيادة المغربية الكاملة على صحرائه.
ومن زاوية استراتيجية، هذا التطبيع لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية بين دولتين، بل أداة ضغط جيوسياسية، حصل فيه المغرب على دعم أمريكي مباشر لقضيته مقابل تقديم مكافأة رمزية لإسرائيل وهي التطبيع.

لكن ما ميز هذا الأخير عن سابقيه من الدول المطبعة هو المرونة والتوازن الشئ الدي صنع الاستناء في هاته الحالة السياسية .

جلالة الملك محمد السادس - رئيس لجنة القدس

جلالة الملك محمد السادس – رئيس لجنة القدس

فمن جهة نجد  المغرب لطالما أعلن التزامه الدائم بمبدأ التضامن الإنساني , من خلال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني ، شملت إرسال إعانات غذائية وطبية متواصلة ودائمة وإقامة مستشفيات ميدانية ، إضافة إلى مبادرات إنسانية منتظمة أشرفت عليها المؤسسة الملكية وهيئات رسمية ومدنية وحتى فردية من خلال المواطنين، كما كفلت الدولة المغربية لشعبها بمختلف أطيافه احتفاظه بحق التظاهر تضامنًا مع الشعب الفلسطيني واحترامًا منها لمبدأ الحريات وحق الشعوب في حرية التعبير.

أما سياسيًا : فقد كان المغرب في كل فرصة ومحفل دولي أو إقليمي أو مناسبات وطنية بشكل واضح وصريح يؤكد على ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كإحدى القضايا العادلة والضرورية لاستقرار المنطقة.

دون ان ننسى في هدا الصدد  التمثيل السياسي والتاريخي والدور الهام الدي لعبه المغرب والمتمثل في لجنة القدس وهي لجنة تابعة لمنظمة التعاون الاسلامي برئاسة ملك المغرب محمد السادس وهدفها الاساسي هو الدفاع عن مدينة القدس الشريف وحمايتها من التهويد او التغيير الديموغرافي والثقافي , ويعد الجانب المغربي الممول الشبه الوحيد والاكبر عبر وكالة بيت مال  المقدس  , كالية ميدانية قوية واقعية وشرعية داخلها من خلال مشاريع متنوعة جعل المغرب صاحب أفضل حضور فعلي داخل القدس  من بين الدول الاسلامية  .

ومن جهة أخرى ؛  مكسب مباشر استراتيجي يتمثل في إعلان رسمي يعترف بالسيادة الكاملة للمملكة المغربية على الصحراء، ودعم مقترح الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية كحل جاد وواقعي وذي مصداقية للنزاع المفتعل (مقترح الحكم الذاتي هو المبادرة التي قدمها المغرب سنة 2007 للأمم المتحدة، كحلّ سياسي نهائي وواقعي لقضية الصحراء الغربية  المغربية)، وتوسيع العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية.

إن هذا التطبيع هو بمثابة صفقة استثنائية رأى فيها المغرب بعدًا لمصالحه الأمنية والسياسية والاقتصادية، ولا يعكس في ذات الوقت إيمانًا أيديولوجيًا أو دعمًا مطلقًا لإسرائيل ، بل هو أداة عملية للحصول على مصالح ملموسة.
وعليه : يرى بعض المحللين السياسيين أن تطبيع المغرب قد يمنحه في المستقبل موقعًا استراتيجيًا يؤهله ليكون شريكًا أساسيًا في المفاوضات بين الأطراف المتنازعة ، وملجأً إنسانيًا وماديًا ومعنويًا، مستندًا في ذلك إلى العلاقات التاريخية العميقة التي جمعت المغرب باليهود، وإلى مكانته الخاصة لدى المنظومة الدولية والعربية والإسلامية.

خلاصة القول نلاحظ أن التطبيع عبر التاريخ اتخذ أشكالًا وأسبابًا مختلفة لقيامه، تبعًا للتطورات التي شهدها العالم ولا يزال، غير أن الأمر لم يخلُ من مواقف متضاربة، حيث عبّرت معظم شعوب الدول المطبّعة وغيرها عن رفضها المستمر للتطبيع ومطالبتها بوقفه، باعتباره لا يعكس بالضرورة إرادة الشعوب بقدر ما يعكس حسابات الدول وخياراتها السياسية.

لذلك لا بد أن نشير أن السياسة أكثر قدرة على الاستشراف بالمستقبل، لأنها ترتبط بالتحليل الاستراتيجي للمصالح والاعتبارات السياسية والرهان الاقتصادي والتحالفات، بينما القانون يسطر هذه العلاقات ويقننها، لكنه يبقى أقل دينامية لأن الواقع السياسي يتجاوزه والوقائع والأحداث العالمية تتسارع بوتيرة لافتة.

لذلك هل سنرى في المستقبل قوانين أكثر مرونة وجرأة داخل منظومة القانون الدولي تعطي للتطبيع مشروعية أكبر؟ وهل سنرى تغييرات في دساتير وطنية تلاحق واقع التطبيع وتمثيلاته؟ وهل سنشهد في يوم من الأيام “التطبيع” كآلية للمساومة ووسيلة ضغط لقيام الدولة الفلسطينية، أو ربما نراها امتدادًا للاستعمار بثوب جديد للإمبريالية؟

من يدري فالعلاقات الدولية متغيرة وليست ثابتة، صحيح أن بوصلتها هي المصلحة الوطنية، لكن في ذات الوقت من المفروض أن يكون القانون روحها، والتطبيع ما هو إلا آلية من آلياتها السياسية.

تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على Google News تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من تمغربيت على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الخميس 16 أكتوبر 2025 - 23:21

دي ميستورا يحذر من تصاعد التوتر ويدعو لجولة مفاوضات الصحراء 2025

د-سالم-الكتبي
الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 15:48

سلام المغرب سلام عليك.. رسالة محبة وفخر بالشعب والوطن

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 01:35

شراكة المغرب والاتحاد الأوروبي الفلاحية تعزز الاستثمار بالصحراء المغربية

الأحد 28 سبتمبر 2025 - 01:14

البرتغال تدعم الحكم الذاتي بالصحراء المغربية: خطوة قوية لتعزيز وحدة المغرب