تمغربيت:
د. عبد الحق الصنايبي
استهداف التمثيليات الدبلوماسية
تعتبر التمثيليات الدبلوماسية حسب القانون الدولي امتداداً للدولة التي تمثلها.. حيث يتم رفع العلم الوطني لهذه الدولة ويخضع موظفوها للتشريعات الوطنية، اللهم إذا ما تورط أحدهم في أفعال ذات صبغة جنائية.. فيطبق هنا قانون الدولة التي تحتضن التمثيلية الدبلوماسية. إذا تعتبر السفارات والقنصليات بمثابة امتداد للدولة التي تنتمي إليها وتعتبر مقارها ضمن السيادة الفعلية لهذه الدول. وعلى هذا فإن الاعتداء على هذه الممثليات الدبلوماسية يعتبر اعتداءً على الدولة التي اعتمدتهم وحرباً معلنة عليها.
تفجير السفارة الأميركية في بيروت
يوم 18 من أبريل سنة 1983، وبينما كانت الممثليات تنعم بأجواء الهدنة في لبنان، والتي تخللت الحرب الأهلية، وقع انفجار هز العاصمة اللبنانية مستهدفاً السفارة الأميركية بالعاصمة بيروت.. وتم ذلك حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر وثلاث دقائق حين قامت عربة نقل من نوع “pick-up” بلوحات تسجيل مزورة تحمل أرقاماً دبلوماسية، ومحملة بحوالي 900 كلغ من المتفجرات بالاصطدام بالبوابة الرئيسية للسفارة الأميركية.
سيُخلف هذا العمل الإرهابي مقتل 63 شخصاً وجرح حوالي 120 آخرون، وكان من أبرز القتلى 8 ضباط أميركيون وعلى رأسهم رئيس قسم الشرق الأوسط روبرت إيمس، والمدير المساعد للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبعض رجال المارينز. كما خلف التفجير مقتل 32 موظفاً لبنانياً و14 زائراً.
ورغم أن العملية الإرهابية قامت بتبنيها حركة “الجهاد الإسلامي” والتي ادعت بأنها فرع لحركة فتح الفلسطينية.. إلا أن مجموعة من القرائن تفيد بتورط حزب الله في هذا العمل الإرهابي. هذا المعطى تؤكده شهادة المدعو روبرت باير، الرجل القوي في جهاز الاستخبارات الأميركية (CIA)، والتي دونها في كتابه “ذكريات مقاتل ظل على الجبهات الإسلامية” (les mémoires d’un guerrier de l’ombre sur les fronts islamistes) والذي صرح بأن تفجير السفارة الأميركية كان وراءه حزب الله بإيعاز وتوجيه من إيران، وقد أشار الكتاب بالاسم إلى القيادي في حزب الله عماد مغنية، والذي أثار تواجده في مكان الحادث مباشرة بعد التفجير العديد من التأويلات التي تصب في تورطه المباشر في العملية.
عماد مغنية يبصم على شهادة وفاته
لقد كان تورط عماد مغنية في تفجير السفارة الأميركية من الأسباب الرئيسية وراء السعي لاغتياله، الشيء الذي سوف يتحقق 25 سنة بعد ذلك عندما قامت وكالة الاستخبارات الأميركية باستهداف عماد مغنية في دمشق في فبراير سنة 2008 بواسطة عبوة ناسفة مثبتة على إطارات إحدى السيارات.. حيث كشفت صحيفة “واشنطن بوست” ومجلة “نيوزويك” في فبراير 2015 عن دور “وكالة المخابرات المركزية” في اغتيال “الإرهابي الكبير في «حزب الله» عماد مغنية”، حسب تعبيرهما.
لقد اعتبرت المؤسستان الإعلاميتان أن اغتيال عماد مغنية كان، بالنسبة للعديد من أفراد الوكالة، قضية ذاكرة مؤسساتية، ومسألة جد شخصية. كما تسرّب الخبر عن دور “وكالة المخابرات المركزية” في مقتل مغنية للمرة الأولى في سيرة حياة روبرت إيمس، والتي كتبها كاي بيرد وتم نشرها عام 2014.
وقد أعلن عنصر سابق في الوكالة لمجلة “نيوزويك” أن التصريح علناً عن دور الوكالة في مقتل مغنية كان يجب أن يحصل منذ وقت طويل، وقال “هذه رسالة مفادها أننا سنتعقب أثركم مهما استغرق الأمر، ويجب أن يعرف الطرف الآخر ذلك”.
استهداف مبنيين للقوات الأميركية والفرنسية في بيروت
وقع تفجير مقر المارينز على الساعة السادسة والنصف صباحاً من يوم 23 أكتوبر سنة 1983، وراح ضحيته 220 فرداً من المارينز و18 من البحارة و3 جنود.
سيطفو إلى السطح اسم “إسماعيل عسكري”، سائق شاحنة المرسيدس والتي استهدفت مقر “المارينز” المجاور للثكنة العسكرية لمطار بيروت، حيث يُقيم 300 فرد من مشاة البحرية البالغ عددهم في العاصمة اللبنانية ذلك الوقت 1600 عنصر، ممن شكلوا مع نظرائهم من بريطانيا وفرنسا “قوات حفظ السلام الدولية” التي تمركزت في بيروت منذ انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
وتروي لنا تحقيقات الحادث الإرهابي عن اقتراب “شاحنة الموت” من البوابة الرئيسية للثكنة حين اتجه سائقها نحو موقف السيارات، فظنوها صهريجاً كانوا ينتظرونه لتزويد المبنى باحتياجاته من الماء. إلا أن إسماعيل عسكري كان يقود شاحنته الصفراء المحملة بما قوته التفجيرية أكثر من 6 أطنان من مادة “تي.أن.تي” الشديدة الانفجار والتي أحدثت دويّاً اعتُبر هو الأقوى منذ اندلاع الحرب الأهلية.
وبالتزامن مع تلك العملية، فجر انتحاري آخر بشاحنة متفجرات، أيضاً، مبنى مجاوراً، كان مقراً لقيادة كتيبة المظليين الفرنسية العاملة و”المارينز” الأميركية في إطار قوات متعددة الجنسية والتي تم تكليفها بتهدئة الأوضاع في لبنان، فسقط في التفجير 58 جندياً فرنسياً و6 مدنيين.
فرنسا تتفقد عناصرها
في اليوم التالي، قام الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا ميتران، بزيارة غير رسمية إلى بيروت، وأمضى في موقع الانفجار الفرنسي بضع ساعات، وأكد على “استمرار القوات الفرنسية في أداء مهامها النبيلة مهما حاول الإرهابيون صدهم عن ذلك”، حسب تعبيره. كما قام جورج بوش الأب، وكان نائباً للرئيس الأميركي رونالد ريغان آنذاك، بزيارة موقع تفجير قوات “المارينز” بعد 3 أيام من العملية الإرهابية، ليصرح بأن الولايات المتحدة “لن يهددها الإرهابيون”.
لقد كان استهداف فرنسا، آنذاك، من طرف الإرهاب الإيراني كردة فعل مباشرة على تسليحها للعراق ووقوفها معه في حرب الخليج، فيما كانت الولايات المتحدة توصف، ومن دون انقطاع، بـ”الشيطان الأكبر”.
من جهتها، كشفت صحيفة “سلايت” الفرنسية، أن المسؤول عن تنسيق عمليات التفجير، إلى جانب عماد مغنية، شخص ينتمي إلى حزب الله ويدعى إلياس صعب، ويسمى أحيانًا سامي عيسى، ويطلق عليه في أحيان أخرى مصطفى أمين بدر الدين. وبحسب الصحيفة الفرنسية، فشخصية مصطفى بدر الدين تكاد تكون شبه مجهولة، رغم مسيرته الحافلة بالتنقلات والعمليات الإرهابية، ويعزى ذلك إلى أنه على الصعيد الرسمي بالكاد يمكن إثبات وجوده، فهو لا يملك جواز سفر ولا رخصة قيادة أو حسابًا بنكيًا أو ملكية خاصة، ولا توجد أي سجلات تفيد بخروجه أو دخوله للبنان.
ونقلت الصحيفة تصريحًا لغرايم كاميرون، قاضي المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تم إنشاؤها في لاهاي لمحاكمة منفذي اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005، قال فيه إن: “بدر الدين يتحرك مثل شبح لا يمكن إدراكه، ونظريًا يستحيل تعقبه داخل لبنان فهو لا يترك أي أثر”.
سيقوم مصطفى بدرالدين بالتخطيط لتفجير آخر استهدف، هذه المرة، السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت قتل على إثره ستة أشخاص، كما تورط في محاولة اغتيال أميرها، لتتم إدانته من طرف الكويت بالإعدام في سنة 1984، إلا أن الغزو العراقي للكويت سيشهد عمليات مهاجمة السجون وتحرير كل السجناء الذين كان من ضمنهم مصطفى بدر الدين.
لقد كانت التفجيرات التي قام بها حزب الله من أخطر العمليات الإرهابية التي اهتزت على وقعها لبنان وأوقعت أكبر عدد من الضحايا، خصوصاً في صفوف الأميركيين والذين لم يعرفوا هذا العدد الهائل من الخسائر البشرية إلى غاية أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001.
لن تتوقف آلة الإرهاب عند حزب الله، وهذه المرة سيتم استهداف الأجانب في لبنان من خلال مجموعة من عمليات الاختطاف والتصفية.
تعليقات
0