تمغربيت:
بقلم الأستاذ: أحمد الدافري
حين أثرنا موضوع الشاب المراكشي بائع السمك الذي اظهر أنه من الممكن أن يشتري المواطن السمك بأثمان منخفضة.. عكس ما هو عليه الحال، لم نكن ننتظر من أشخاص كنا نعتبرهم عقلاء، كبار السن، منهم من ربما يكون لديه أبناء في مثل سن هذا الشاب.. أن ينبروا إلى ما كتبناه عن الموضوع من منطلق أننا ندافع عن تيكتوكر، يقوم بتغليط الناس، ويببع بضاعة فاسدة بثمن أقل من ثمنها الحقيقي الذي ينبغي أن تكون معروضة به في أسواق التقسيط.. وأنه يفعل ذلك فقط كي يظهر بطلا أمام الناس، وأن ربحه الحقيقي الذي يعوض به الخسارة التي يتكبدها في السمك هو ما يجنيه من مبالغ مالية ناتجة عن الفيديوهات التي ينشرها.
مسألة أن يكون الشاب من نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي.. وأن يجني من نشاطه مبلغا ماليا، هو موضوع هامشي، وكنا أكدنا على أنها مسألة جانبية وشكلية ولا تخص جوهر الموضوع.
قراءة في فن التواصل
قد يكون الحديث عن كون الشاب من نشطاء التواصل الاجتماعي ذا أهمية إن قاربنا الموضوع من زاوية تواصلية.. وحاولنا أن نتساءل هل الشاب ناجح أو فاشل من الناحية التواصلية، وهل هو مقنع أو غير مقنع في خطابه، وهل هو جذاب أو منفر في لغته.. وهل هو مقبول أو مرفوض في مرافعاته، وهل الفضاءات التي يختارها كي تحتضن ديكوراته تبدو واقعية ومثيرة بصريا، أم تبدو عناصر مصطنعة من مسرحيات وتمثيليات يتم إخراجها مسبقا بغرض التحايل والإيهام.
لو تناولنا الموضوع من هذه الزاوية، المرتبطة بالتواصل، بإخضاع فيديوهات الشاب المراكشي، تاجر السمك، إلى سلطة النقد المتخصص في الخطاب الإعلاني.. الإشهاري، المرتبط بالتسويق التجاري (Discours publicitaire)، أو في الخطاب الدعائي الدعوي التبشيري المرتبط بالسياسة وبالإيديولوجيا وبالتحريض (Discours propagandiste).. لربما كنا سنكتشف أن هذا الشاب صغير السن، الذي مازال لم يتجاوز عمره العشرين إلا بقليل، قد تفوق تواصليا، على العديد من الذين يعتبرون اتفسهم شيوخا في السياسة أو في المجتمع المدني أو في الإعلام حتى.. ممن حاولوا أو يحاولون أن يمروا من التواصل الكتابي مع متابعيهم إلى التواصل السمعي البصري، فيُنفرون الناس منهم بسبب خلل ما، يعود إلى ضجيج دلالي (تشويش ناتج عن ضعف في ترابط الأفكار وتفكك في المعنى) أو إلى ضجيج تقني (تشويش ناتج عن عيوب في مخارج الحروف أو عن عيّ لفظي أو بسبب سوء اختيار المحيط).
نجم التواصل
فالشاب من الناحية التواصلية، حسب تقديرات فنية وتقنية، يخلق دينامية بصرية في فيديوهاته، بصبيب لفظي مضبوط إيقاعيا، وبتعابير دقيقة تذهب مباشرة إلى الفكرة بأقل مجهود تركيبي، فلا يضيع المعنى وتصل الفكرة بسرعة دون الدخول في التفرعات والمتاهات والاستطرادات، رغم ما يُلاحظ في كلامه من لجوء إلى العواطف، والعاطفة هنا هي أسلوب إقناع اختاره الشاب في حِجاجه كي يحقق هدفه التواصلي، ومن حقه أن يفعل ذلك، إذ ليس من السهل أن يخترق الخطاب العواطف دون موهبة تواصلية ومهارات في تنميق الكلام واستحضار المشاعر.
هناك من بين المنتقدين لما كتبناه بخصوص حادثة الشاب المراكشي هذا، من اعتبر أننا دافعنا عن الشعبوية وعن الحق في بيع بضاعة فاسدة وعن الحق في النصب على الناس.
الشعبوية.. دراسة في المصطلح
الشعبوية (Le populisme) كلمة ادخلها السياسيون إلى حقل التداول اللفظي، كي يقللوا من قيمة تأثير منافسيهم، متهمين إياهم بأنهم يمارسون خطابا يفتقد إلى العقلانية، وينزع إلى تصعيد العواطف بالتركيز على التحميس الوجداني، لتجييش الجمهور. والشعبوية مصطلح ليس له اتساق مع موضوعنا ولا علاقة له به.
إننا تناولنا موضوعا اجتماعيا اقتصاديا مرتبطا بالتجارة وبالسوق وبالأمن الغذائي داخل المجتمع، وهو موضوع ليس فيه أي عنصر من عناصر التدافع السياسي داخل التجمعات الخطابية أو في إطار حملات انتخابية حالية، ما عدا إن كان هناك من المنتقدين لنا من قام بتحقيق دقيق، فتوصل إلى معلومات قاطعة تؤكد أن هذا الشاب يشتغل لفائدة حزب سياسي أو لصالح جماعة سرية أو بتنسيق مع تنظيم جهادي، وفي هذه الحالة سنطلب ممن توصلوا إلى هذه المعلومات بأن يدلوا بحججهم وبراهينهم ومستنداتهم، وبنفس الدقة التي يجب أن تتوفر عليها معلوماتهم إن كانوا يعلمون حقا أن هذا الشاب يبيع بضاعة فاسدة، وإلا فإن انتقاداتهم مجرد أوهام وتهيؤات وتفسير خاطئ لبعض الرموز والإشارات.
حين أثرنا موضوع هذا الشاب يا سادة، وأشدنا بجرأته وبما قام به من فعل، لم نقصد شيئا آخر غير التنبيه إلى ظاهرة خطيرة تهدد أمن المجتمع، هي ظاهرة الفساد المستشرية في مجال التجارة، التي تؤذي الطاقة الشرائية للمواطنين، وهي ظاهرة المضاربة والاحتكار والسمسرة، التي تجعل قلة ممن لديهم ارتباطات بأصحاب نفوذ ومسؤولين في إدارات، يراكمون الأموال بدون جهد، ويلتهمون كل شيء قبل وصوله إلى المستهلك عن طريق رخص ريعية، وذلك على حساب تعب وشقاء صيادين وفلاحين وعاملين، يكدحون ويشقون ويعرضون أنفسهم لأخطار المهنة، ولا ينالون سوى الفُتات.
إن كنتم مقتنعين أيها السادة بأن هذا الموضوع لا ينبغي طرحه فوق مائدة النقاش العمومي، ويجب السكوت عنه، معتقدين بذلك أن إثارته فيها تزكية للشعبوية، فإنكم بذلك إما تداهنون جهات معينة قد تربطكم بها علاقات مصلحة في هذا الإطار، أو أنكم تستكثرون الشهرة على شاب فتح عينه في واقع تكنولوجيا التواصل الذي ربما تحاولون أو حاولتم أنتم أيضا أن تنخرطوا فيه من أجل الظهور وإثبات الوجود أو تلبية لحاجات نفسية أو لتحقيق مصلحة مادية أو معنوبة، فلم تحسنوا أو لا تحسنون استعماله، ولم تنجحوا أو لا تنجحون في تسويق بضاعتكم كما نجح هذا الشاب، الذي أعتبره ابنا لي وابنا للمجتمع، وأقول له سير آولدي الله يرضي عليك.
أقولها له الآن، وفق ما ألاحظ وما أسمع وما أرى.
لكن، إن زاغ عن الخط وأخطأ، فسأكون من أوائل الذين سيوجهون له النقد الشديد دون تحامل أو طغيان.
وهذا ما كان
تعليقات
0